قالت مجلة إيكونوميست في تقرير حديث إن خطتي الإعمار المقترحتين لغزة، سواء العربية أو الأمريكية، لا تملك أي فرصة واقعية للنجاح. وأشارت إلى أنه، بعد مرور شهر على وقف إطلاق النار، يقف سكان القطاع — الذين يتجاوز عددهم مليوني نسمة — أمام واقع قاتم، ويتساءلون ما إذا كان اليأس قد أصبح قدرهم الدائم.
وأضافت المجلة أن شيئًا يُذكر لم يُنجز في ملف إعادة الإعمار منذ دمار العامين الماضيين، رغم تقديم الدول العربية تصورًا لإعادة البناء، لكنه بقي حبرًا على ورق. وتشير التقديرات إلى أن بدء تنفيذ هذه الخطط مشروط بنزع سلاح حركة حماس، وهو شرط ترفضه الحركة، ما دفع مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين إلى بحث مقاربات بديلة، مثل تنفيذ بعض مشروعات الإعمار في الجانب الخاضع للسيطرة الإسرائيلية وراء “الخط الأصفر”. غير أن هذه الفكرة تُقابَل برفض عربي قاطع، خاصة أن هذه المناطق لا يسكنها فلسطينيون أصلًا.
وأوضحت إيكونوميست أن سكان غزة بحاجة فورية للمساكن والخدمات الأساسية، في وقت لا توجد فيه أي خطط عملية لتوفيرها. فحجم الدمار غير مسبوق: أكثر من 320 ألف منزل دُمّر أو تضرر، وفق تقديرات الأمم المتحدة في أغسطس الماضي — أي ما يعادل 18 ضعفًا مما دُمّر في حرب 2014. وبات 1.2 مليون شخص، أي نحو 60% من سكان القطاع، بلا مأوى. وحتى الخيام الأساسية يصعب توفيرها، إذ تشير منظمات الإغاثة إلى أن أقل من 20 ألف خيمة فقط سُمح بدخولها منذ وقف إطلاق النار، في مشهد يعكس عمق الأزمة الإنسانية واستمرار غياب أي أفق لإعادة البناء.
أفكار إعمار غير واقعية
رغم أن توفير الملجأ الآمن يُعد ضرورة قصوى لسكان غزة، إلا أن الاحتياجات تتجاوز بكثير مسألة المأوى. فقد دُمّر نحو 85% من المؤسسات التجارية، وتضرر ما يقرب من 90% من الأراضي الزراعية وآبار الري. ويقع ثلثا الأراضي القابلة للزراعة داخل المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل خلف الخط الأصفر. كما تعرضت 77% من الطرق للقصف أو التدمير بفعل الدبابات الإسرائيلية، فيما تتسع قائمة الدمار يومًا بعد يوم.
وتشير إيكونوميست إلى أن الأفكار المطروحة لإعادة الإعمار كثيرة لكنها بمعظمها غير واقعية؛ بدءًا من اقتراح دونالد ترامب تحويل غزة إلى منتجعات سياحية بعد تهجير سكانها، مرورًا بمشروعات “خيالية” طرحها رجال أعمال إسرائيليون حول إنشاء مصانع سيارات “تسلا” ومراكز بيانات للذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى خطط السلطة الفلسطينية والمسؤولين المحليين في غزة. ومع ذلك، تبرز المبادرة المصرية التي أقرّتها الدول العربية في مارس باعتبارها الخطة الأكثر دعمًا حتى الآن.
60 مليون طن من الأنقاض
تعتمد خطة إعادة إعمار غزة على مراحل متعددة، تبدأ بإزالة نحو 60 مليون طن من الأنقاض المنتشرة في مختلف مناطق القطاع. ويمكن إعادة تدوير جزء من هذا الركام، كما حدث بعد حرب 2014 عندما استُخدم حطام المباني المقصوفة في إعادة رصف الطريق الساحلي. وتأمل مصر في دمج الأنقاض مع الرمال لاستخدامها في أعمال الردم واستصلاح الأراضي قبالة شاطئ غزة، وهي مساحة يمكن أن تستقبل ميناءً وبنية تحتية جديدة.
أما المرحلة الثانية، فتمتد لأربع سنوات ونصف، وتركز على إعادة البناء الفعلي. وبما أن غزة تعاني من بطالة مرتفعة، تتوقع الخطة وجود قوة عاملة كافية محليًا، على أن توفر مصر الخبرة الفنية والمواد الخام، مع احتمال الاستعانة بمطورين خليجيين. إلا أن المهندسين يعتبرون الجدول الزمني غير واقعي، مشيرين إلى أن إزالة الأنقاض وحدها قد تمتد إلى ست سنوات بدلًا من ستة أشهر. كما ستحتاج المواد إلى المرور عبر معبر رفح الذي تمتلك إسرائيل عليه حق الفيتو. وأبلغ أحد كبار المطورين الخليجيين مسؤولين غربيين أنه غير مستعد للاستثمار بسبب غياب أي ضمان لعائد اقتصادي.
المال هو العقبة الكبرى أمام الإعمار
رغم ضخامة الدمار، يبقى التمويل هو المعضلة الأساسية. إذ تقدّر الخطة المصرية تكلفة الإعمار بنحو 53 مليار دولار، بينما ترفع الأمم المتحدة الرقم إلى 70 مليارًا. ومع ذلك، يحجم المانحون عن التمويل قبل التأكد من انتهاء الحرب فعليًا، وهو ما يعتمد على نزع سلاح حماس. وينصّ وقف إطلاق النار الحالي على نشر قوة دولية لحفظ السلام من أجل تنفيذ هذه المهمة، فيما يدعو دونالد ترامب مجلس الأمن لمنح هذه القوة تفويضًا لمدة عامين.
لكن أيًّا من الدول العربية لا تبدي استعدادًا للمشاركة؛ فقد صرّح أنور قرقاش، مستشار رئيس الإمارات، بأن الفكرة “لا تزال ضبابية”، وأن بلاده “لن تشارك على الأرجح”. كما استبعدت السعودية والأردن المشاركة. ويأمل ترامب في إشراك دول غير عربية، لكنها لم تقدّم التزامًا حتى الآن.
خطة أفغانستان لن تنجح في غزة
تبحث أطراف أمريكية وإسرائيلية بديلًا يقوم على بناء مدن جديدة في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، بدلًا من إعادة إعمار مدن غزة الحالية القريبة من الساحل. ومن المتوقع أن يبدأ العمل بالقرب من رفح، حيث تُهيمن إسرائيل على أكبر مساحة. تقوم الفكرة على بناء سلسلة بلدات نموذجية تستوعب آلاف الفلسطينيين، وتضم مدارس وعيادات وخدمات أساسية.
لكن التجارب السابقة تشير إلى فشل هذه المقاربة؛ فهي تذكّر بمحاولات مكافحة التمرد في أفغانستان في العقدين الماضيين، وفي فيتنام خلال الستينيات — ولم تنجح هناك ولن تنجح في غزة. فالمنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي لا يقطنها سوى بضعة آلاف من الفلسطينيين، كثير منهم مرتبطون بميليشيات تدعمها إسرائيل. وحتى لو أُقنع آخرون بالانتقال، سيخضعون لفحوص أمنية، ولا يُعرف ما إذا كان سيُسمح لهم بالعودة أو التنقل بحرية. كما تخشى الدول العربية من أن يصبح الخط الأصفر حدودًا دائمة. وقال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي: “لا نريد غزة مجزأة”. ويخشى مسؤولون مصريون أن يؤدي توسيع المنطقة في رفح إلى دفع السكان نحو الحدود المصرية، وهو سيناريو طُرح مرارًا خلال الحرب من قبل أطراف إسرائيلية.
إعادة تأهيل لا إعادة إعمار
عرض رجال أعمال أمريكيون مقربون من إدارة ترامب هذه الرؤية على حكومة خليجية، أملاً في الحصول على تمويل، لكنهم قوبلوا بالرفض. ونتيجة لذلك، يُرجَّح أن يتركز الجهد الدولي على تقديم الحد الأدنى من المساعدات بدلًا من إعادة الإعمار الشامل. فقال دبلوماسي غربي: “ما سيجري هو إعادة تأهيل، وليس إعادة إعمار”.
وفي أغسطس، أنهت الإمارات برنامجًا لتزويد جنوب غزة بـ 8 ملايين لتر من المياه المحلاة يوميًا، تُنتجها محطة تقع في مصر ويُنقل إنتاجها عبر خط أنابيب إلى غزة. كما يضغط الدبلوماسيون على إسرائيل للسماح بإدخال المزيد من الملاجئ المؤقتة، بينما تنتظر آلاف الوحدات الموافقة في دول مجاورة. وتروج منظمة “مؤسسة غزة الإنسانية” — التي أدارت برنامجًا غذائيًا فاشلًا سابقًا — لخطة إنشاء 16 مركزًا للإغاثة على طول الخط الأصفر.
لكن في النهاية، ووفق التقرير، ستظل كل خطط الإعمار الطموحة مجمّدة ما لم يتم إقناع

